من جديد، يبرهن المفكّر العربي الدكتور طلال أبوغزاله على أنه صوت الحكمة في هذا الزمن الصعب الذي تعيشه الأمة العربية، ويعيشه الأردنيون أيضا.. هو الربان الماهر وصاحب الرأي السديد دائما.
قبل أيام قليلة، بثّت إذاعة حياة FM مقابلة شاملة مع الدكتور أبوغزاله، تطرّق فيها المفكّر العربي إلى العديد من المحاور الهامّة، وقدّم تشخيصا دقيقا لما يعيشه الأردن وتعانيه الأمة، وما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما وجّه نصائح في عدة اتجاهات من شأن اتباعها النهوض بالأمة العربية.
في الواقع الذي يعانيه الأردن، قال الدكتور أبوغزاله إن المملكة تأثرت بكلّ ما يدور حولها من أحداث؛ حدود شمالية مغلقة وقرارات دولية تحظر التعامل الاقتصادي مع سوريا، وحدود غربية يسيطر عليها العدوّ الصهيوني، وسياسات دولية تفرض على الأردن قرارات ومواقف تضرّ باقتصاده. فيما لم يبرّئ أبوغزاله الحكومات من المسؤولية، مشددا على أن دور الحكومات يكمن في ايجاد أفضل السبل للتعامل مع تلك الظروف ووضع خطط للالتفاف عليها.
أبوغزاله رأى أن المشكلة الأساسية في الأردن تكمن في غياب الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بل وتعامل القطاعين وكأنهما فريقان متنافسان، حيث تعمل الحكومات على مبدأ "أنا أقرر والقطاع الخاص ينفّذ"، والأصل أن الحكومة موجودة لتدير الشأن العام وليس لتحكم، وإدارة الشؤون مستحيلة دون شراكة حقيقية مع الطرف الذي تدير شؤونه، وهو قطاع الأعمال، خاصة أن القطاع الخاص هو الذي يصنع الثروة ويموّل خزينة الدولة وليست الحكومة.
ورأى أبوغزاله أن الحكومات المتعاقبة تسيء تفسير التوجيهات الملكية بالشراكة مع القطاع الخاص، فالملك يريد شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص، بينما الحكومة تتعامل مع القطاع الخاص كخصم تفرض عليه سياساتها وقراراتها، بل أن الحكومة وعندما قامت بتشكيل مجلس للشراكة بين القطاعين العام والخاص قامت بتعيينه كاملا.
وأشار أبوغزاله إلى أن أبرز التحديات التي تواجه القطاع الخاص تكمن في الضرائب، فالعقلية الحكومية ترى أنها كلّما رفعت الضرائب زادت الايرادات، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فالأمر لا يعتمد على زيادة نسبة الضريبة، بل على زيادة الوعاء الضريبي، وزيادة معدلات النمو، فكلّما زاد دخل الشركات والأفراد ارتفع الايراد الضريبي.
ووجّه أبوغزاله نصيحة إلى الحكومات العربية، دعا فيها إلى الاستغناء عن برامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، قائلا إن تلك المؤسسات الدولية لا يمكن أن تقدّم برامج أو نصائح تصبّ في صالح الدول المقترضة، فهي مؤسسات تعتمد على سوء أوضاع الدول، وترى أن ازدهار الدول ليس في صالحها.
ولفت أبوغزاله إلى أن صندوق النقد والبنك الدولي في الأساس هي شركات، لكن الفرق أن المساهمين هي دول تبحث عن مصالحها وتفرض قراراتها، مشددا على أن نصائح صندوق النقد والبنك الدولي لا تضع مصلحة الدولة المقترضة أولوية لها، فمثلا؛ عندما تنصح هذه المؤسسات دولة باستيراد القمح بنصف كلفة انتاجه محليا، يبدو الأمر منطقيا للوهلة الأولى، لكن الحقيقة غير ذلك تماما؛ أنت عندما تنتج مادة القمح محليّا تكون حققت الاكتفاء الذاتي، وكسبت تشغيل الأيدي العاملة في البلد، ووفّرت عملة أجنبية، والأهمّ من كلّ ذلك أنك تكون تخلّصت من أي قيد قد تفرضه عليك الدولة المصدّرة.
ودعا أبوغزاله الدول العربية بالعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي في ثلاثة أمور مهما كانت كلفتها؛ أولها الغذاء، وثانيها الدواء، وثالثها التعلّم والتحوّل الرقمي، فأنت لا تستطيع أن تنتج وتنافس الدنيا إذا لم تغيّر نظامك التعليمي لينافس الأنظمة التعليمية التي وصلها العالم.
أبوغزاله استهجن في المقابلة الحال التي وصلها الشباب العربي وتحديدا الأردني من بحث عن هجرة حتى لو كانت غير شرعية، وأكد رفضه خطاب المظلومية من الشباب واستسلامهم للإحباط، فقال: "أنا لاجئ فلسطيني، لم يدعمني أحد، ولم يُطعمني أحد، لم يصرف على تعليمي أحد، وأنا واثق أن وضع الشباب اليوم أفضل من وضعي بكلّ تأكيد، فقد مررت في أصعب وأسوأ الظروف، لكنني قررت أن أصنع من النعمة نقمة".
وتابع أبوغزاله: "نصيحتي للشباب أن يدركوا تماما أن المشكلة هي فرصة في جوهرها، وأنت بامتلاكك جهاز حاسوب وانترنت لديك الفرصة الكاملة للنجاح ولا تختلف في شيء عن أيّ شاب أمريكي أو فرنسي أو ألماني، وأنت أمام فرصة لصناعة ثروة عظيمة، فمثلا في أزمة كورونا، كانت نسبة النمو في طلال أبوغزاله العالمية من أعلى النسب في تاريخ المجموعة لأننا عرفنا كيف نتعامل مع هذه الأزمة باستخدام المعرفة والتقنيات وأجهزة الحاسوب التي نصنّعها نحن في أول مصنع عربي لانتاج أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية، فالأزمة نعمة من الله".
الحقيقة أن مقابلة الدكتور طلال أبوغزاله تلك كانت فريدة ومميزة، ولعلّ الوطنية تقتضي تعميمها على كلّ مواطن عربي وكلّ صاحب قرار، ففيها الوصفة السحرية التي ستغيّر حياة وواقع الأمة العربية كلّها..