غادا فؤاد السمّان –بيروت
كلّنا تَابَعَ مجريات المحكمة الدوليّة، بقليلٍ من الأنتباه، وبأقلّ من التركيز، فصفّق بشيءٍ من البهجة، وهلّل بشيء من الامتنان لجنوب أفريقيا، ثمّ التفتَ لمتابعة إحصائيات قناة الجزيرة لشهداء غزّة، ولجرحاها، ولمفقوديها، وللدمار الشامل الذي لم يترك فيه العدو الإسرائيلي في عدوانه الأخير على غزّة، حجراً على حجر..
كثيرون عُقب المحاكمة حاول أن يتمسّك بفكرة أو بأخرى، ليملأَ الهواء الإعلامي في هذه المحطة أو تلك، إلا أنّ الرجل الثمانيني خصّ المحكمة باهتمامٍ بالغ، لقد تمكّن من تقديم قراءة مختلفة جملة وتفصيلاً، قدّم سجالاً مفتوحاً مع قراراتها بنداً تلو الآخر، أقام محاكاة مفتوحة لجميع الأطراف، قدّم حواراً شاملاً لرؤيته، بما للمحكمة وما عليها، وأنا كمطّلعة ومتلقيّة، استطعت أن ألمس من خلال النقاط التي تناولها د.طلال أبوغزاله كلٍّ على حِدَه، خيطاً واضحاً مضيئاً ومشبعاً بالتفاؤل، إذ لم يتسنَ سابقاً أن تشهد فلسطين مثيله في مسألتها الشائكة، حتى أصبْنا بالإحباط، وساد الإعتقاد اليقيني أنّ القضيّة الفلسطينية انصهرت في بوتقة النسيان، إلا أنّ قراءة أبوغزاله استطاعت أن تبيّن العكس بل وأن تؤكّد أن المسألة الفلسطينية باتت أقرب للحلّ، واستطاعت قراءة أبوغزاله أن ترفع سقف المطالب، ليس على صعيد محلّي فقط بل على صعيد عربي وعالمي، وخاصّة عندما عرّجتُ على محرّك البحث "google “ أبحث عن أصداء المحكمة الدوليّة في الأذهان الفلسطينيّة، فلم أجد سوى أبوغزاله، حاضر في عشرات المواقع والصحف، لدرجة لا أخفي فيها كيف هالني نسبة انتشار تلك القراءة على امتداد الشبكة العنكبوتية طولاً وعرضاً..
لهذا كان لا بدّ من إعادة الإصغاء بتأنٍ أكبر لمقررات المحكمة الدولية، من خلال سطور د. طلال أبوغزاله، التي فنّدها بنداً بنداً، وبسّطها، وجعلها بمتناول الجميع للإحاطة والإلمام والاستيعاب، نظراً لأهميّة الحدث التاريخي من الناحيتين السياسيّة والعسكريّة الذي يدين "إسرائيل " دولياً وللمرة الأولى التي تتوجّه فيه الأنظار نحو إسرائيل بشكل مغاير عن المألوف، وتأتي قراءة أبوغزاله في تلك المقررات ليس مجرّد توثيق روتيني للمستجدات الطارئة على الحالة الفلسطينيّة، بل كسبيل مفتوح للمرة الأولى على الخلاص.. وسأحاول الإقتباس من سطور أبوغزاله بعض قبسات التفاؤل التي لا بدّ أن نعيها جميعاً كعرب تتفاوت بيننا وجهات النظر، لكن حتماً لا تزال القضيّة الفلسطينيّة تمثّل الثغرة الهائلة في معنى الإستقرار في المنطقة بنطاقيها المباشر وغير المباشر.. ولنبدأ المراجعة معاً.. ولنحاول تلخيص ما جاء في القراءة لنساهم في انتشار الفائدة، وفي تعميم التداول وزيادة منسوب التحاور بما يخصّ المسألة الفلسطينيّة التي شغلت العالم أجمع بفضل الأبطال الذين وثّقوا المأساة بالصوت والصورة، ووضعوا الحقيقة نصب عين المشاهد دون زيادة أو نقصان.
بداية يرى أبوغزاله أن قرار المحكمة الدولية بإيقاف فوري ل"الإبادة الجماعيّة " وليس لمسار الحرب ومجرياتها، هو قرار عادل وقيّم وجرئ، بحيث إنها المرّة الأولى التي تتلقّى فيها إسرائيل مواجهة رادعة بمثابة صفعة صاعقة لتماديها بحقّ فلسطين، وأهميّة هذا القرار برأيه أنّه ليس منصفاً ومُطَمْئِناً لفلسطين وحسب، بل هو فتح أعين العالم أجمع على تجاوزات إسرائيل اللامنطقيّة واللاإنسانيّة واللامتوازنة، ويعتبر أن هذا القرار لا يخصّ إسرائيل وحدها بل يشمل كل من ساندها وأولاها عنايته ورعايته في الإمداد المادي والعسكري، والدليل على ذلك أنّ خمسة عشر دولة من أصل سبعة عشر قد صوّتت على حتميّة القرار وجعله حكماً قضائيّاً نافذاً غير قابل للطعن، ليس هذا وحسب بل حددت المحكمة مهلة زمنية لا تتعدى الشهر لإلزام إسرائيل في تنفيذ القرار الدولي المزدوج المعيار، فإيقاف الإبادة الجماعية تعني حتماً إيقاف الحرب على غزّة، إلا أنّ المنطق الذي يحرص أبوغزاله على سلامته دوماً، هو اقتناعه التام أن قرار المحكمة منفرداً من الصعب أن يأتي أُكُلَهُ فهو بالضرورة يحتاج إلى دعم من قِبل الأمم المتّحدة لإلزام إسرائيل وقف النار.
يتابع الدكتور طلال أبوغزاله في مَعرِض حديثه عن أهم ما جاء في مقررات المحكمة الدولية، هو أنّ "الحفاظ " على مستندات الإدانة لإسرائيل والحرص على نجاتها من "التلف "، وتلك عادة من عادات إسرائيل في تضليل العدالة، وتمويه الحقائق، وتبديد الوثائق، وإتلاف "المستمسكات " عليها وخاصّة في إلحاق الأذى حتى بموظفيّ "الأونروا " تلك المؤسسة الأمميّة الإنسانيّة المحايدة التي لا تتدخّل في الظروف السياسيّة والعسكرية بأي شكل من الأشكال والتي لم تسلم بدورها من الإعتداءات الإسرائيلية المتكررة وقد نالت نصيبها الوافر من قصف المراكز وتدمير المدارس وقتل معظم المدنيين الذين لاذوا بكنفها للحماية التي لم تستطع إيجادها الأونروا يأيّة رقعة من أرض غزّة المستهدفة في كل شبر من الأرض..
هنا يمكن القول أنّ قرار المحكمة الإستباقي بهذا الخصوص جاء لحماية الحقوق الفلسطينيّة ويعطي جرعة عالية من التفاؤل بصدقيّة المحكمة، وهنا بدوري، لا يسعني أنا وكل قارئ لسطور أبوغزاله غير الفرح الفعلي والتوسّم لكل الخير الذي ينتظر فلسطين وأهلها، والذي حتما سينعكس على عموم المنطقة المثقلة بارتددات الحرب الغاشمة على غزّة.
بدوره لم يخفِ أبوغزاله انعكاس قرار المحكمة على إسرائيل التي يصف حالها النفسي المتردي وأفضل أن أدرج المقطع كما هو بدون أي تدخّل مني نظراً للأهميّة إذ يقول: "
وكان واضحا أن العدو قد فقد أعصابه على كل مستوياته فأخذ يكيل الهجوم على المحكمة بسبب
ادراكاته لخطورة هذه الترتيبات على عدوانيته ومما يثبت أن ممارساته ابادية، فهو يدرك أن
قرارات هذه المحكمة وترتيباتها غير قابلة للاستئناف، كما يدرك أن الترتيبات الإبتدائية التي
صدرت سيتبعها تحقيقات شاملة وصولًا إلى اثبات جريمة الإبادة الجماعية التي ليس بعدها جريمة أكبر".
طبعاً لايزال ثمّة العديد من النقاط الهامّة التي تطرّق إليها أبوغزالة في قراءته العميقة لقرار المحكمة، ولا يمكن مناقشتها كلّ على حده، لهذا أكتفي بما تيسّر منها، داعية القارئ العودة لتلك القراءة التي لازوائد لفظيّة فيها، ولا استطرادات لغوية، فقط نقاط وفق فقرات مكثّفة، بوسع كل فقرة أن تمتد على عشرات الصفحات ومئات السطور.. كما وأنصح بترجمة تلك الكلمة الموضوعية ل "أبوغزاله " بالترجمة لعدة لغات أهمها الإنكيزية والفرنسية والألأمانية كذلك، على أمل أن أستطيع يوماً أن أحرر مقالة فورية عن تحرر فلسطين وحريّة الأسرى وحريّة أمتنا العربية من كل طغمة جائرة دخلت وما تزال في بلادنا لم نعرف منها غير الغصة والغبن والغرور والإستكبار.