غادا فؤاد السمان
الفلسطيني العتيد العنيد العريق لا يكترث بالمحاذير و لا يبالي بالمحظورات.. يأمرُ حين يشاء، ولا يأتمر لمن يشاء الأمر والنهي والإملاء..
ففي الوقت الذي خرج من لبنان جميع الرعايا وعائلات الدبلوماسيين والكبار والصغار والوصايا، جاء "طلال أبوغزاله" بزيارةِ تضامنٍ مزدوجٍ، ليعطي صوته مضاعفاً، على مسمع كل اللبنانيين دون أيّ تحيّزٍ أو تمييز، فهو عاشق لبنان الواحد، لبنان الكل، لبنان المحتوى العام، ومعهم أسماع كلّ الفلسطينيين، في كلّ أصقاع العالم..
اعتباراً من الداخل الفلسطيني مروراً بالمخيمات في لبنان، وصولاً إلى دول الشتات.. ورغم ضيق الوقت ومحدوديّة الزيارة، إلّا أنّ الإعلام اللبناني كالعادة كان يتخاطفه من شاشة إلى شاشة، وفي كل شاشة كانت الأفكار تثمر أملاً وأبعاداً ورؤىً وتفاؤلاً أكبر وأكبر مما نمتلك نحن الذين تشلّ عزيمتنا الأحداث بكل مافيها من تمادٍ.. شللاً شبه تام لا يبدّده إلّا إرادة صلبة وفكرٍ متينٍ، كالذي يتمتّع به حضور طلال أبوغزاله الإستثنائي في كل حوار وحديثٍ ولقاء..
ما أحوجنا نحن الملتصقين بالشاشات، الذين يقتلنا المشهد مع كل شهيد مرّة، ويدمينا مع كل جريح نزف يتفاقم مراتٍ ومرات، لشعورنا بالعجز، والإحباط، والإنكسار، والوجع.. إلى كلام "المقاوم " -الفلسطيني - الأول طلال أبوغزاله.
إذ لم يكن في كل لقاء من تلك اللقاءات الأخيرة يمرّ على أذهاننا عبثاً، بل مرّ مرور البلسم وكان له شديد الأثر، وكأنّه ضوء شديد الإبهار والتأثير، يفتح أحداق العقل للنظر مليّاً فيما يقول، ويفتح جفون النفس المضطربة إلى آفاق أكثر واقعيّة من الأحلام الثورية التي انتهت بالصمت والقلق والشجب والاستنكار والأضطراب واليقين..
عندما سألته المذيعة سؤالها المشروع "من تتوقع أن يحرّر فلسطين ؟!" أجابها "لن يحرر فلسطين غير الفلسطينين أنفسهم".. كان جوابه.. جواباً خارجاً عن جميع الإجابات المألوفة، أجابها بدون تردد أو تفكير أو معايير استباقيّة كالتي يفترضها غيره من المتحدثين عن فلسطين ويلقون التهم جزافاً واعتباطاً على هذا الطرف أوذاك النفير.. لأنّه يؤمن بالشرعيّة، ويؤمن بالأحقيّة، ويؤمن بالمقاومة، ويؤمن بالوطن، ويؤمن بذاته، ويؤمن بالأمّ الفلسطينيّة التي ترضع طفلها حبّ الوطن..
طلال أبوغزاله يتألّم كما نتألّم وحتماً أكثر، لأنّ الذاكرة الفلسطينيّة حاضرة لديه كل يوم ومشهد النكبة لم يغادره رغم جميع الإنجازات والنجاحات التي حقّقها على امتداد دربه الطويل عبر القارات، لكنّ الغصّة، غصّة الوطن المسلوب، لم تتبدّد ولم تتبدّل، فهو يتحدّث عن فلسطين كمواطن، ويتحدّث عن فلسطين كإبنٍ بار، ويتحدّث عن فلسطين كمجاهد، ويتحدّث عن فلسطين كواثق، أن هذا الوطن سيتحرر لا محاله، وأن العدو الغاصب إلى زوال..
ما يميّز حديث طلال أبوغزاله عن فلسطين هو أنه لا يجيد العتب ولا إلقاء اللوم على أحد من الأشقاء أو الأصدقاء أو المحايدين، هو يعلم علم اليقين أن فلسطين مهما قدّمت من تضحيات فهي إلى انتصار، ومهما طال الزمن فهي لا بدّ إلى تحرّر واستقلال..
طلال أبوغزاله لا شكّ أنّ الإصغاء إلى حواراتك المتلفزة ليس كما قبله، والنفس الرابضة في زاوية القهر والوجع والضعضعة قبل متابعتك تشهد على انبثاق الفجر القريب ولو بعد حين، لهذا نستحلفك جميعاً بالمزيد والمزيد من تلك اللقاءات ايّها "المعلّم " القدوة، المثال، لأجيال وأجيال وأجيال.