31-تشرين الأول-2021
أبو غزالة قاريء إستراتيجي أجاد قراءة ما يدبر للصين وحلفائها مبكراً عبر أفغانستان
أمريكا لم تهزم ولم تنتصر ، ولم تنسحب مضطرة ولا غير مضطرة ، إنما
دخلت مرحلة جديدة من الحرب تتبعها أخرى
فرصة أمريكا في الحرب المقبلة تتمثل بصياغة نظام عالمي جديد يحفظ ماء
وجهها
حرب مختلفة غير تقليدية تتضمن حزمة صراعات قومية وعرقية ومذهبية
وأقتصادية وجغرافية ، تشعلها أطراف لا مصلحة حقيقية لهم فيها
من وجهة أمريكية : إسقاط الدور المتصاعد لمنافسي واشنطن في المنطقة
العربية وإفريقيا وأمريكا الجنوبية والوسطى يكون بإشغالهم وإشعال منطقتهم
يمتاز رجل الإقتصاد والسياسة ؛ المفكر العربي والعالمي الدكتور طلال
أبو غزالة ، بقدراته على الربط المحكم ، وإدراك ما خلف المتباينات في ظاهرها
، وحسن القراءة المستقبلية الإستراتيجية المبكرة السباقة بعقود لما
سيجري ، وعلاقتها بما جرى من قبل وما يجري في اللحظة الراهنة .
والغريب أن أبو غزالة لم يطرح ذاته في يوم ما من حياته ، على أنه
الباحث أو المفكر أو المحلل السياسي أو المؤرخ ، أو القاريْ للمستقبل ، رغم أن
ضيقي الأفق يرون في هذا لإبداع نوعاً من التنجيم ، أو الإنتماء غير الحميد .. ما
يعكس قصورهم ، بدلاً من البحث العميق في الظواهر والمستجدات ، وإعمال العقل .
والجميل في قراءات أبو غزالة ، شجاعته المدهشة في إعلان
ما يراه بغض النظر إن كان كان ذلك يروق أو يزعج البعض ، وموضوعية قراءاته
وإستنباطاتها وإقترابها من الحقيقة ومما سيجري وتداعياتها اللاحقة ، أو تطابقها ..
وهو في كل ذلك غير منحاز إلا لقضيته الأولى فلسطين وعروبته ومراهناته البالغة في
الإعتماد على العلم والتعلم وثورة المعرفة الخارقة في تسارعها وصرورتها كأمر واقع
يفرض نفسه في غير إتجاه ومجال وزمان أو مكان فحسب .
ابو غزالة مبكرا ؛ لم ير أفغانستان بذاتها هدفاً إستراتيجيا مباشرا
موجباً ، لشن حرب أمريكية ونيتوية وحليفة قبل عقدين من الزمن ، سواء بذريعة
( هجمات ) البرجين أو القاعدة ، أو سواهما ، إذ ليس في أفغانستان بذاتها ما يستدعي
كل هذا التحشيد والمغامرة والإنفاق المذهل وتسخير القوى وتقديم الضحايا ، في
قضية هي محل التباس وشبهات وتداخل .. إلا إذا كانت مُدخلاً لما يلي .. وهو ما تبين
بجلاء أخيراً لا أدنى عِوَرَ فيه .
لقد كان هدف الحرب الحقيقي على أفغانستان في مرحلتها الأولى
واحتلالها ، هو تهيئة بنية تحتية (مدنية) وعسكرية ومذهبية وسياسية وإقتصادية ونظام
حكم ، بحيث تكون مقدمة لمرحلة ثانية لاحقاً ، من الحرب على محيط أفغانستان
عبرها ، بحيث تكون هذه ألـ أفغانستان ، قادرة على إدخال المنطقة هناك في حزمة
صراعات قومية وعرقية ومذهبية وأقتصادية وجغرافية وغيرها ، تتيح الدخول في المرحلة
الثالثة والأخيرة من الحرب على الصين وروسيا بالدرجة الأولى وعلى الهند
وإيران وكوريا الديمقراطية بدرجة ثانية ، رغم أنه لا مصلحة حقيقية لهم فيها .
وستكون الظروف والعوامل القائمة في المنطقة المحيطة بأفغانستان ؛
الديمغرافية والجغرافية والدينية وغير ذلك ، عوامل مساعدة لتحقيق أهداف
المرحلتين التاليتين للحرب ، وما بعدها ، بإسقاط الصين وروسيا ( من وجهة أمريكية
وحليفة ) بما يحول دون إستكمال دورهما المتنامي كقوتين حاسمتين عظميين ،
تعملان على تحجيم دور وقوة وجبروت وهيمنة وسطوة الولايات المتحدة الأمريكية ،
أولاً ، فأوروبا الغربية وبخاصة بريطانيا أولاً ثم المانيا وفرنسا .. فإيطاليا
وهولندا وبلجيكا وإسبانيا .
فمن وجهة الولايات المتحدة الأمريكية ومن يليها ، لا يمكن إسقاط الدور
المتنامي للصين وروسيا إلا بإشعال المنطقة هناك ، وإشغالهما ومن معهما في حدائقهما
الخلفية وإبعادهما عن التقدم في المنطقة العربية وإفريقيا وأمريكا الجنوبية
والوسطى .. وتركهم ينشغلون بلعق جراحهم وترميم بناهم بدلاً من المشاركة في إعادة
بناء ما دمرته أمريكا وحلفها الغربي والرجعي العربي والتركي الأردغواني .
وترى واشنطن وحلفها أن تخليق ذاك الصراع، سيعيق تقدم الصين وحلفها
علمياً وفي الثورة المعرفية والسيبرانية والإبتكار والإختراعات الخ وما يستتبع ،
بما سينفق على الحرب المفروضة ، على إعتبار أن التقدم العلمي من أسباب تفوق الصين
وحلفها .
والحرب التي ستشن ليس بالضرورة أن تكون حربا تقليدية كما الحربين
العالمينين الأولى والثانية ، لكنها حروبا متعددة الأشكال والصفات والمهمات
والتداعيات، والأطراف .. والجزئيات من حيث أن المتورطين بها من الجانب الأمريكي قد
يتوافقوا في ناحية منها ويختلفوا في غيرها .
إن مبعث قوة وتقدم وسطوة أمريكا ، منذ إنتهاء الحرب العالمية هي الحرب
، بدأت بالحرب العالمية الأولى وتكرست بالثانية ، وبقيام المجمع الصناعي العسكري
الأمريكي ، أصبح هو مصدر الإستراتيجيات الأمريكية المتعاقبة بغض النظر عن الحزب
والرئيس الحاكم ، وجوهر هذه الإستراتيجيات إدامة الحروب مشتعلة، وتخليق الثورات
المضادة، ونشر القواعد العسكرية في كل جهات الأرض بذريعة حماية أصدقائها ، فيما هي
لنهبهم ، ولضمان قوة الدولار دون تغطية أو أدنى رقابة، وتمويل الحروب من الدول
المتحاربة والكيانات المختلفة وحتى المتخلفة منها من خلال نهب خاماتها وفرض
إقتصادات منسجمة مع مصالح واشنطن.
ليس ذلك فحسب ، بل بما تقدم الدول الضعيفة من ملايين الدولارات
الحمائية ( وإن بدا ظاهراً أن واشنطن هي التي تقدم المساعدات لتلك الدول ) ،وبفرض
الدولار عليها كمعادل ( قيمي ) ، وبهذا المعنى فإن الدفع لأمريكا مزدوج الأبعاد ،
فالدولار أداة إخضاع وعقوبات لمن لا يقبل الدخول في الدائرة الأمريكية ، وهو أداة
منحٍ ( كاذب ) ومنع ، بل هو أداة حرمان حتى من التمتع بما تملك الدول محل العقاب
منه ، ومن إستخدامه في التحويلات المالية ، وأداة للحصارات الإقتصادية .
وحيث أن العالم بات مختلفاً عنه في العقود المنصرمة ، جراء ظهور قوى
وتوازنات دولية جديدة (وإن لم تحسم بعد تماماً ) فإن الحروب لم تعد بآلياتها
القديمة ( كما أسبقنا ) وتتخذ أساليب ومعطيات مختلفة منها التهديد بالحرب الرادعة
المحدودة السريعة ، التي لا تتيح تدخلات أخرى مساندة مضادة ، كما باتت العقوبات
الإقتصادية والحصارات العنصر الغالب فيها ، لكن الصين التي تمكنت من الخلاص من
سطوة الدولار ولها عملتها الخاصة وطريقتها الناجعة في التعاملات التجارية
والإقتصادية المعترف بها عالمياً ، لم تعد واشنطن قادرة على إرهابها ، ولذلك صار (
إلى جانب دواع ٍ أخرى) لا بد من وجهة نظر أمريكية من طريقة مختلفة من الحرب على
الصين ، فكانت أفغانستان هي الطريق الأقصر ربما والأنجع لذلك .
وحيث لم تحقق الولايات المتحدة في حروبها المباشرة بعد الحرب العالمية
الثانية ، إنتصارات تذكر، لكنها كرست الدولار لعقود كعملة عالمية ، وأداة
فاعلة للحصار .. لكن هذا لا ينطبق على الصين وحلفائها ، فهي ليست دولة هامشية ،
ولا دولة دولارية ، يمكن محاصرتها بقوة الدولار ، بل إن عدم تعامل الصين بالدولار
هو من عناصر قوتها بمواجهة أمريكا ودولارها ، وهي تمتلك منه في آن ، ما تستطيع
الإطاحة بأمريكا بشبه ضربة قاضية ، رغم أنها هي الأخرى ستتضرر في مجالات جزئية وإن
تعددت ، لكن تنوع إقتصادات الصين وتعدد الحلفاء ، سيجعل التضرر الصيني بالقياس
طفيفاً وهامشياً .
يؤكد أبو غزالة أن ثمة عقبات أمام أمريكا في حربها المقبلة مع الصين ،
فالعقوبات الإقتصادية والحصارات لم تعد ناجعة ، وأؤكد هنا أن إيران مثلاً أصبحت
أكثر قوة مما كانت عليه قبل الحصار الممتد لعقود ، وحصار سورية لم يسقط الدولة ،
بل أثبت للمترددين أن ما قيل أنها ثورة لأجل الحرية إنما هي مؤامرة أثخنت
بالجراح ، فإزداد التصاق الشعب بدولته وقيادته ، وبالطبع لن يكون تأثير الحصار على
دولة عظمى كالصين ، أشد منه على إيران أو سورية كمثال ، فضلاً
عن مزاياها الأخرى التي أتينا عليها .
كما أن لدول وجهات أخرى مصالح كبرى باستمرار تفوق الصين، لأن ذلك
سيقوض سطوة واشنطن أو يضعفها على الأقل، كما لم يعد الإتحاد الأوروبي صاحب مصلحة
كما السابق ؛ في إستمرار تفوق الولايات المتحدة وجبروتها ، وهو ما نشهده بوضوح لدى
الدولتين الأهم في الإتحاد الأوروبي المانيا وفرنسا ، والتوجهات الإستقلالية
الأوروبية بعامة .
لقد باتت أمريكا تدرك ، أن الحروب المباشرة ونهج العقوبات والحصارات
لم يعد نافعا ، لذلك نجدها تلجأ لإنابة الآخرين في الحروب بدلا عنها ،
وستكون أفغانستان قاعدة الإنابة الرئيسة سواء عن طيب خاطر أو غيره ،
فقد هيأت أمريكا ؛ أفغانستان (جيداً ) لهذه الظروف العدوانية والملتبسة ،
فواشنطن لم تهزم ولم تنتصر ، ولم تنسحب مضطرة ولا غير مضطرة ، وإنما دخلت
كما أكد المفكر أبو غزالة في مرحلة جديدة من الحرب المخطط لها جيداً ، منذ عقود ،
عنوانها الصين ثم روسيا وغيرهما من دول تشاكس موضوعيا؛ مصالح أمريكا وحلفائها أو(
ممن ملكت أيمانهم ) !؟
فرصة أمريكا لا تتمثل بكسب الحرب وإنما في صياغة نظام عالمي جديد يحفظ
ماء وجهها ، إن قبلت الصين ذلك ، وقد يكون في هذا النظام مصلحة للبشرية أفضل مما
هو سائد الآن.